سورة المنافقون - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المنافقون)


        


{وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ} أي هيئاتهم ومناظرهم. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يعني عبد الله بن أبي. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة.
وقال الكلبي: المراد ابن أبى وجد بن قيس ومعتب ابن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة.
وفي صحيح مسلم: وقوله كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قال: كانوا رجالا أجمل شيء كأنهم خشب مسندة، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام.
وقيل: شبههم بالخشب التي قد تأكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها. وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي: {خُشُبٌ} بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد، لان واحدتها خشبة. كما تقول: بدنة وبدن، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل. ويلزم من ثقلها أن تقول: البدن، فتقرأ: والبدن. وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء، كقوله عز وجل: {وَحَدائِقَ غُلْباً} واحدتها حديقة غلباء. وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو، وأكثر الروايات عن عاصم. واختاره أبو حاتم، كأنه جمع خشاب وخشب، نحو ثمرة وثمار ثمر. وإن شئت جمعت خشبة على خشبة كما قالوا: بدنة وبدن وبدن. وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في خُشُبٌ. قال سيبويه: خشبة وخشب، مثل بدنة وبدن، قال: ومثله بغير هاء أسد وأسد ووثن ووثن وتقرأ خشب وهو جمع الجمع، خشبة وخشاب وخشب، مثل ثمرة وثمار وثمر. والاسناد الإمالة، تقول: أسندت الشيء أي أملته. ومُسَنَّدَةٌ للتكثير، أي استندوا إلى الايمان بحقن دمائهم. قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. ف هُمُ الْعَدُوُّ في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي: أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون، لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الأخطل:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم *** خيلا تكر عليهم ورجالا
وقيل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد، وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم، لان للريبة خوفا. ثم استأنف الله خطاب نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هُمُ الْعَدُوُّ وهذا معنى قول الضحاك وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك به أستارهم.
وفي هذا المعنى قول الشاعر:
فلو أنها عصفورة لحسبتها *** مسومة تدعو عبيدا وأزنما
بطن من بني، يربوع. ثم وصفهم الله بقوله: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.
وفي قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُمْ} وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم.
الثاني- فاحذر مما يلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك. {قاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي لعنهم الله قاله ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب.
وقيل: معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر، لان الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}
أي يكذبون، قاله ابن عباس. قتادة: معناه يعدلون عن الحق. الحسن: معناه يصرفون عن الرشد.
وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الافك وهو الصرف. وأن بمعنى كيف، وقد تقدم.


{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)}
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم، أي حركوها استهزاء وإباء، قاله ابن عباس. وعنه أنه كان لعبد الله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضبان: فأته يستغفر لك، فأبى وقال: لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا بني المصطلق على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له: جهجاه مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له: سنان على ماء بالمشلل، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار، فلطم جهجاه سنانا فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوها! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز- يعني أبيا- الأذل، يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم- وهو من رهط عبد الله- أنت والله الذليل المنتقص في قومك، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبد الله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال زيد: فوجدت في نفسي ولا مني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة.
وقيل: يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ يستتبكم من النفاق، لان التوبة استغفار. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الايمان. وقرأ نافع {لووا} بالتخفيف. وشدد الباقون، واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة. النحاس: وغلط في هذا، لأنه نزل في عبد الله بن أبي لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرك رأسه استهزاء. فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنت عن الإنسان. أنشد سيبويه لحسان:
ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم *** وفينا رسول عنده الوحي واضعه
وإنما خاطب حسان ابن الأبيرق في شيء سرقه بمكة. وقصته مشهورة.
وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله.
وقيل: قال ابن أبي لما لوى رأسه: أمرتموني أن أو من فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد!.


{سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)}
قوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} يعني كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا، لان الله لا يغفر لهم. نظيره: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة 6]، {سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ} [الشعراء: 136]. وقد تقدم. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا.

1 | 2 | 3 | 4